منذ أن نُشِر للمرّة الأولى قبل 150 عامًا ونيف في العام 1865، كان الكتاب المقدّس بترجمة البستاني-فاندايك هو النسخة الأكثر شهرةً وسلطةً واستمراريةً في اللغة العربيّة لسنوات عدّة.
تحظى هذه الترجمة باحترام ورهبة بين المسيحيّين العرب تشبه الذروة التي يحظى بها إنجيل الملك جيمس في العالم الناطق باللغة الإنجليزية.
ولا يسعنا سوى أن نشكر الله لمساهمة ملايين النسخ في بناء جسد المسيح، وإعلان الإنجيل، وتنمية عقول المؤمنين والباحثين العرب وأرواحهم.
إلى جانب جمال اللغة، تتميّز ترجمة البستاني-فاندايك بأسلوبها الحرفي الذي يسعى إلى أن يكون الأكثر أمانةً للمخطوطات الأصليّة.
غير أنّ خلف كلّ ترجمة، هناك نصّ الكتاب المقدّس باللغات الأصليّة، اليونانيّة والعبريّة والآراميّة. في الوقت الذي كانت تتمّ فيه ترجمة البستاني فاندايك، أصبح النص المقبول (باللاتينية Textus Receptus)، الذي جمعه إيراسموس في عام 1516، هو المعيار والمرجع المُستخدم في ترجمات الكتاب المقدّس بما في ذلك ترجمة الملك جيمس.
استمرّ ذلك على المنوال نفسه حتّى العام 1881، وبعد ذلك تمّ تبنّي النصّ المحقَّق من قبل معظم جمعيات الكتاب المقدّس، بينما ظلّت ترجمة البستاني-فاندايك على حالها، من دون تغيير، حتّى يومنا هذا.
فهذا هو الموضوع الحاسم وسواه من الموضوعات الأخرى التي تمّ التطرّق إليها في اللقاء الذي عُقِد في كلية اللّاهوت المعمدانيّة العربيّة – مركز مور للمؤتمرات، يوم الأحد 22 يناير/كانون الثاني 2023. تمّت معالجة كلّ هذه المسائل وفقًا للدراسة الأكاديميّة والعمل الدؤوب للراحل القس الدكتور غسّان خلف في كتابة “الإنجيل بين الإسكندريّة وبيزنطية” الذي صدر بعد وفاته.
وقد ساعدت التأمّلات والكلمات الرئيسة التي قدّمها علماء مسيحيّون مرموقون في هذا المجال الجمهور على سبر أغوار هذه الأمور المعقّدة. فقد أكّدوا للحضور أنّ أيًّا من الاختلافات بين المخطوطات القديمة للعهد الجديد أو عوائق الترجمة لا يغيّر أيّ حقيقة أو عقيدة أو حتّى ممارسة مسيحيّة في الكتاب المقدّس.
وكما وضّح الدكتور نبيل قسطة، المدير التنفيذي للجمعية اللبنانية للإنماء التربوي والاجتماعي، في مقدّمته أنّ رغبتنا الأساسية هي أن نسعى إلى أن نكون أمناء قدر الإمكان لنصوص الكتاب المقدّس الأصليّة حرفًا وروحًا كما كتبها البَشَر بوحي إلهي. لأنّ كلمة الله المعصومة عن الخطأ في لغتها الأصليّة هي بالنسبة إلينا المعيار المطلق في مسائل الإيمان والممارسة وكافةً، هي مفيدة “للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البرّ” (2 تي 3: 16-17).
وقد شارك القس الدكتور أندريه زكي، رئيس الطائفة الإنجيليّة في مصر، عن تحديات ترجمة البستاني- فاندايك للكتاب المقدّس، بينما شرح القس الدكتور حكمت قشوع، القسّ الرئيس في كنيسة القيامة في بيروت، عمليّة نقل نصوص المخطوطات القديمة وكيف أنّ هذه المخطوطات تمنحنا الثقة في الموثوقيّة التاريخيّة للنص اليوناني الحاليّ. أمّا القس الدكتور عماد شحادة، رئيس كليّة اللّاهوت في الأردن (الهيئة الإنجيلية الثقافية JETS)، فقد ألقى الضوء على أسلوب النقد النّصي وكيف يؤكّد لنا ذلك عقيدة عصمة الكتاب المقدّس.
وفي حلقة النقاش، دار القس تشارلي قسطة النقاش موضّحًا أسئلة الجمهور معقّبًا على إجابات المحاضرين.
وأخيرا وليس آخرًا، عبّر القس جهاد حدّاد قائلاً إنّ دخوله عالم المخطوطات زاده عشقًا للربّ وفهمًا للتاريخ وتعلّقًا بالكتاب، موضّحًا للحاضرين في قاعة الياس الصليبي المكتظّة أنه لا ضير من إصدار ترجمة جديدة مستندة إلى النص المحقَّق، أو زيادة حواشي في ترجمة-البستاني فاندايك بغية الإيضاح، أو ربّما تنقيح الترجمة مع توخّي الدقّة.
إن إرث القس الدكتور غسّان خلف الدائم الأثر من خلال هذا الكتاب قد يمهّد الطريق لحوار أوسع حول الحاجة إلى وجود “نسخة منقّحة من ترجمة البستاني-فاندايك للكتاب المقدّس باللغة العربيّة” في أيدي المؤمنين العرب الأمناء.