منذ خمس عشرة سنة، سمعتُ أنَّ القسيس غسان خلف ينوي أن يُصدر كتابًا يُسلِّط فيه الضوء على أخطاء في العهد الجديد. استفزّني هذا الأمر لكوني إنجيليًّا محافظًا. وفكّرتُ قائلًا: “مَن يحقّ له أن يفحص كتابًا موحًى به من الله، عمره ألفا سنة، وقد غيّر حياة الملايين من البشر؟ أليس من المفترض أن يفحصنا الكتاب المقدَّس لا أن نفحصه نحن؟ أيّة صورة عن كتابنا المقدَّس نُقدِّمها لغير المسيحيّين؟
لكن عندما فهمتُ موضوع مشروع القس غسان، ودرستُ اللغة اليونانيَّة على يده وشهدتُ كم يُدقِّق في “اليوتا” و”الإيتا” و”الزيتا” والنقطة والفاصلة، تمامًا مثل الجوهرجيّ الذي يُلمِّع أجمل قطعة لديه، وحين اطَّلعتُ على إلمامه الواسع بالمخطوطات وبعلم تحقيق النصوص، اكتشفتُ أنَّني بالغتُ في ردّة فعلي. فاعذروني!
سنة ٢٠٠٩، صدر كتابُ “أضواء على ترجمة البستاني ڤاندايك”، وكما نعلم أنَّه كلَّما ازدادت الأضواء، فضحت الشوائب الصغيرة. لكنَّ الشوائب تكمن في الترجمات المتنوّعة والمخطوطات الكثيرة، وليس في النص الأصليّ. فالنصُّ الأصليّ موحًى به من الله على خلاف الترجمات، وكان الرسلُ مسوقين من الروح القدس، على خلاف النسّاخ على الرغم من أمانتهم وتقواهم. وبالتالي، كلّما رجعنا بالزمن، اقتربنا أكثر من النصوص الدقيقة. فقد كان غرضُ القسيس غسان أن يُمهِّد لنا الطريق لنصل إلى الأصل.
إنَّ كلَّ تغييرٍ يتعرَّض في البداية لمقاومة، لكنَّه يُقبل بعد حين، ثمَّ يصير محطّ حماسة في النهاية. وقد يكون كتابُ “الإنجيل بين بيزنطية والإسكندريّة” بدايةً للتغيير، إذ يصحبُنا فيه الكاتب في رحلة رجوع من النص المقبول إلى النص المحقَّق، من الأمور التي كانت متيقِّنة عندنا إلى الأمور التي أصبحت أكثر يقينيَّة الآن. والفروق التي قد تستحق البحث قليلة جدًا.
هل يمكن أن نثق بالكتاب المقدَّس الذي بين أيدينا بعد كلِّ ما سبق؟ طبعًا، كلّنا موجودون هنا الليلة بفضل هذا الكتاب. شكرًا عالي سميث، شكرًا كرنيليوس ڤاندايك، وألف تحيّة لك أيُّها المعلِّم الكبير بطرس البستاني مع زملائك ناصيف اليازجي ويوسف الأسير. شكرًا على جهدكم الجبار في ترجمة الكتاب المقدَّس إلى اللغة العربيَّة لفائدة جميع الناطقين بلغة الضاد، فبفضلكم وصل إلينا هذا الكنز؛ الكتاب المعروف بترجمة البستاني – ڤاندايك. وبفضلكم نلنا الخلاص بواسطة هذا الكتاب. نعم، نحن نثق به!
أين تكمن إذًا الفائدة من كتاب “الإنجيل بين بيزنطية والإسكندريَّة”؟
إنَّ هذا الكتاب، بأسلوبه السلس، العلميّ والموضوعيّ، يرسم لنا أولًا لوحةً تاريخيَّة عن تطوُّر علم النسخ و المخطوطات من ألفَي سنة إلى اليوم، مُبيِّنًا كيف انتقل الكتاب المقدَّس من جيلٍ إلى جيل على أيدي قدّيسين استُشهد منهم كثُر حتّى وصل إلينا. كما يشرح كيف تطوَّر النَّسخ من على ورق البردي إلى النَّسخ على جلود الحيوانات، إلى الطباعة في العصر الحديث. جميلة الصورة وواضح المشهد.
ثانيًا، يُظهر هذا الكتاب أنَّ الفروق كلّها بين المخطوطات لا تُشكِّل نسبة ١٪ وهي لا تمسّ بأيِّ أمرٍ عقائديّ جوهريّ. فلن تجد أيَّة مخطوطة مثلًا، تُخبرك بأنَّ المسيح ليس هو ابن الله، ولا أيَّة مخطوطة تُنكر موت يسوع المسيح وقيامته، ولا أيّة مخطوطة تنفي مجيء الربّ يسوع ثانيةً ودينونته للعالم.
ثالثًا، ساعدني هذا الكتابُ لأصبحَ محاورًا أفضل مع الملمّين بالنصوص، خصوصًا النصوص غير المتطابقة تمامًا لأسباب تقنيَّة، إذ علَّمتني جداولُ المقارنة بين القراءات المختلفة أيَّة آيات أستخدِم في لغة مَن يُحاورني.
رابعًا، يضع هذا الكتابُ الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح لفتح حوار شفّاف وهادئ بين الأساتذة الكبار في علم اللّاهوت والمخطوطات من مصر والأردن ولبنان، فينسج لغةً تُخاطب عقولهم، ويُمهِّد الطريق للأجيال القادمة كي يتعمَّقوا بالدراسات. أمّا بالنسبة إليّ، فقد قرأتُ الكتاب المقدَّس أكثر من مئة مرّة، وحفظتُ مئات الآيات، فتكوَّن رابطٌ وجدانيّ بيني وبين الڤاندايك، شأني في ذلك شأن أبناء جيلي المؤمنين جميعهم. إنَّ مخطوطات النصوص المحقَّقة لا تتعارض البتّة مع عقائد الإيمان، لذا، هل من حاجة إلى ترجمة عربيَّة جديدة أدقّ من الڤاندايك؟
نحن أحفاد الفينيقيّين الذين صدَّروا حروف الأبجديّة إلى العالم، قد سبَقْنا الغربَ بأكثر من قرن في هذا المضمار، إذ وضعنا ترجمات للنص المحقّق عملت عليها جمعيّات الكتاب المقدَّس مجتمعة أو منفردة، فلا ضير من إصدار ترجمة جديدة مستندة إلى النص المحقَّق، أو زيادة حواشي في ترجمة ڤاندايك بغية الإيضاح، أو ربّما تنقيح الترجمة مع توخّي الدقّة.
خلاصة القول، إنَّ انخراطي في عالم المخطوطات زادني عشقًا للربّ وفهمًا للتاريخ وتعلُّقًا بالكتاب المقدَّس وحماسةً لدراسته. ليُبارك الله كلَّ عقل مستنير! ولا تخافوا إذ لا يطلب الأسدُ مدافعين عنه، بل افتح له باب عرينه وهو كفيل بأن يُدافع عن نفسه.