تقديم تاريخ ورؤية للمستقبل
تقديم كتاب تاريخ الكنائس المعمدانية في لبنان
غسان خلف
الأَحد 17 أَيار 2015
عندما نكتب تاريخنا، هذا يعني أَننا ارتضينا أَن ندخل قاعة محكمة التاريخ ونقف أَمام منصة الرأْي العام. يعني أَننا ارتضينا أَن نفتح نوافذنا لكي يرانا غيرنا كما نحن. يعني أَننا نملك الشجاعة للسماح لغيرنا أَن يقول رأْيه بنا فلا نتباهى عند المدح، ولا نخاف عند المصارحة، ولا نحقد عند الاتّهام. هذا يعني أَننا كبرنا، لقد تجاوزنا المئة بعشرين من السنين. والكبَر يرافقه النُّضج، والنضج هو المسؤولية كما هو الحرية.
يظهر في تاريخنا أَن مسؤوليتنا الأُولى هي نحو الله، ثالوثنا الأَقدس: نحو الآب والابن والروح القدس. الثالوث الأَقدس الركن الأَول في الإيمان المسيحي نرتبط به برباط السلام مع جميع الكنائس الشرق أَوسطية.
ويظهر في تاريخنا أَننا ننمو في مفهومنا للمصير المشترك الذي يربطنا جميعًا نحن المسيحيين. ويزيد شعورُنا بالمصير المشترك ما يجري في منطقتنا من اقتلاع لتراثنا، وتدمير لكنائسنا، وتكاثر أَعداد شهدائنا. أَطمح لأُمنية أَن يكون للمسيحية في الشرق الأَوسط صوت واحد مدَوٍ في شأَن محاولات إلغائها من المنطقة التي تُدعى “أَرض الكتاب المقدس”، وتضم مصر والعراق والأُردن وسوريا ولبنان وقلبها فلسطين حيث تجسد وعاش ربنا يسوع المسيح.
ويظهر في تاريخنا أَننا معمدانيون لبنانيون، وأَننا ننتسب باعتزاز لهذا الوطن كما نصلي ونعمل من أَجل بقائه. ابتدأَت الكنائس المعمدانية في لبنان المتصرفية زمن العثمانيين، ولمــَّا أُعلنت دولة لبنان الكبير عام 1920 غدونا فيها، ثم دولة الاستقلال عام 1943، فتحقق شعار من أَهم شعاراتنا كمعمدانيين “كنيسة حرة في دولة حرة”.
إن وطنيتَنا وحبَّنا للبنان يبرزان من خلال الشخصيات المعمدانية والمقامات الوطنية المذكورة في هذا التاريخ، كما يبرزان في إسمنا “مجمع الكنائس المعمدانية في لبنان”، وهذا يعكس أَمرين:
الأَول: التوجه الكنسي. نحن معمدانيون لبنانيون أَساسُ إيماننا الكتاب المقدس ونفسر العهد القديم بنور العهد الجديد. وإطارُ إيماننا مبادئ الإصلاح الإنجيلي. وتطبيق إيماننا هو من شغل أَيدينا، أَي من فكرنا وثقافتنا وحضارتنا اللبنانية، وهذا حُلم من أَعلى أَحلامنا. نحن لسنا مقلدين لكنائس الغرب وبخاصة الأَميركية، ولا يشترينا من يتبرع لنا، حتى ولا يُملي علينا. نفهم إيماننا ونطبقه لبنانيًّا لأَننا أَوعى بشؤون محيطنا ولأَننا نقدس الحرية، ولا نرضى التبعية. لا ندع خلافات الكنائس في الغرب تؤثر على علاقاتنا الكنسية هنا، إننا أَوعى من سن الطفولة، والمراهقة. نعي مصيرنا المشترك ونواجهه معًا لا مُنقسمين حول جنس الملائكة. معًا معًا معًا، مهما كلفنا ذلك من ثمن.
الأَمر الثاني: التوجُّه الوطني. من واجب كل طائفة في لبنان أَن تفهم أَن سلامتها تكمن في سلامة جميع الطوائف إلى أَي ديانة انتمت. فما من طائفة في لبنان جزيرة لا علاقة لها بغيرها، بل كلنا في المركب الواحد. وبرأْيي علينا درس هذا المفهوم للعلاقات بين الطوائف من خلال مبادئنا الكتابية وأَولها المحبة الباذلة نفسها في سبيل خير غيرها، ونطور أُسُسًا لعلاقات سليمة، صحية، ثابتة، مع جميع مكوِّنات مجتمعنا اللبناني ومؤسساته. إن سمة لبنان الأُولى هي الحرية، والثانية هي شعور كل طائفة بالأَمان وسط الاضطهاد. ويجب على كل طائفة أَن تتذكر أَنها وجدت مكانًا لها في لبنان الملجأِ بسبب رحابة صدر غيرها. فهل نكف نحن الذين هربنا من الاضطهاد عن أَن نمارس الاضطهاد على غيرنا. وكذلك نشكر الله جميعا لأَجل هذا الوطن الذي يوفر هذا التنوع وهذه الحرية.
ويظهر في تاريخنا أَننا كنيسة قديمة التاريخ وواسعة الانتشار. روافد الإصلاح الإنجيلي أَربعة نذكرها بتسلسلها التاريخي: اللوثري والزفينكلي والكلفيني والأَنكلكاني. نحن نشأْنا عام 1525من رحم الإصلاح الذي قام به زفينكلي في سويسرا، وفي عام 1612 صرنا ندعى في إنكلترا بالمعمدانيين. وننتشر اليوم في أَكثر من مئة وعشرين بلدا ويبلغ عددنا أَكثر من مئة وعشرين مليونا. كنا نرغب أن يصدر هذا الكتاب عام 2012 في الذكرى الأَربعمئة لتاريخنا، ولكنه صدر في الوسط فبعد عامين سنحتفل بنصف الأَلف سنة على نشأْة الإصلاح الإنجيلي عام 1517.
وعندما نكتب تاريخنا هذا يعني أَننا رامون إلى المستقبل. فمن له تاريخ له مستقبل. سيفتح هذا التاريخ أَعيننا على أَفضالنا وأَخطائنا ونتعلم منها وهكذا نبني مستقبلا واعدًا لأَنفسنا والأَجيال الآتية بعدنا.
ويظهر أَخيرًا في تاريخنا الذي نطلق كتابه اليوم رؤية الجمعية المعمدانية والإنجاز الرائع لدار النشر منهل الحياة والتعب الحميد للمؤلف القس الدكتور بيار فرنسيس، فهو قد جمع فرائد من ترايخنا كان يمكن أَن تضيع، جمعها من شفاه صانعي هذا التاريخ في الوطن وفي المهاجر، ورسمها في هذا الكتاب. إن هذا الكتاب هو فصل جديد يُضاف إلى فصول سفر أَعمال الرسل، وسيكون من أَعز الكتب إلى قلوبنا لأَنه نحن. فالشكر الجزيل لكم يا من ساهمتم في الرؤية والتأْليف والإنجاز، كافأَكم الرب وحفظ التاريخ ذكراكم.